من المعروف عن الدولة العثمانية وخاصة في أواخر القرن التاسع عشر أن الجمعيات والتنظيمات السرية والتي أسسها مواطنون عثمانيون ينتمي أغلبهم للأقليات اليهودية والمسيحية قد انتشرت بشكل واسع فيها، وحتى بعض المسلمين منهم فقد تلقوا تعليمهم في الغرب فتشبعوا بالأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم مصممين على إحداث تغيير سياسي واجتماعي في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، فانتظموا مع غيرهم في محافل وجمعيات ماسونية كان أبرزها جمعية الاتحاد والترقي، وقد عارضت هذه الجماعة وبشدة السلطان عبد الحميد الثاني وعملت على عزله وكان السبب الرئيسي وراء ذلك هو رفض السلطان عبد الحميد مطلب هرتزل بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين رغم العروض المغرية التي قدمها اليهود للدولة العثمانية إلا أن هذه الجمعيات والمحافل لاقت معارضة ومواجهة شديدة من طرف إدارة السلطان المظفر عبد الحميد الثاني رحمه الله حيث كان السلطان شديد الحذر من جمعية الاتحاد والترقي المدعومة من اليهود، والمحافل الماسونية، والدول الغربية، واستطاع جهاز مخابرات السلطان عبد الحميد أن يتعرف على هذه الحركة، ويجمع المعلومات عنها؛ إِلا أن هذه الحركة كانت قوية ومتجذرة وقد جاءت مراقبة السلطان عبد الحميد لأعضاء هذه الحركة في وقت متأخر، حيث دفعوا الأهالي إِلى مظاهرات صاخبة في سلانيك ومناطق عدة الأمر الذي أدى الى صدام مباشر بينهم وبين إدارة السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله.
المحتوى
السلطان المظفر عبد الحميد الثاني في سطور :
مما لا شك فيه أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني شخصية تاريخية أثارت جدلا كبيرا خرج بأحكام متباينة على السلطان؛ حيث ينظر إليه البعض على أنه مصلح عادل، حكم دولة مترامية الأطراف متعددة الأعراق بدهاء وذكاء، ومد في عمر الدولة والخلافة العثمانية، ووقف ضد الأطماع الاستعمارية الغربية لاقتسام تركة الدولة العثمانية، مستفيدًا من تضارب هذه الأطماع.
بينما ينظر إليه آخرون على أنه مستبد ظالم ديكتاتور، حكم هذه الإمبراطورية الشاسعة لمدة 33 عامًا حكمًا فرديًا، كانت كلمته هي الأولى والأخيرة؛ واضطهد الأحرار، وقتل بعضهم، وطارد البعض الآخر، ولم يسلم منه إلا من خضع له. إلا أن القارئ والمستطلع الواعي يحتاج إلى أن ينظر بعينيه الاثنتين متفحصا وجهتي النظر السابقتين؛ حتى لا تصاب رؤيته بالأحادية فيصدر أحكامًا صارمة وجائرة على شخصيات وأحداث متعددة الجوانب والأبعاد، وفي هذا إهدار لقيمة التاريخ الذي سجل لنا الأحداث بشكل واقعي من خلال مذكرات موثوقة محفوظة إلى وقتنا الحالي.
النسب والمولد والنشأة :
هو خليفة المسلمين السلطان المظفر عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد الأول بن محمود الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورهان غازي بن عثمان بن أرطغرل.
ولد السلطان عبد الحميد الثاني يوم الأربعاء في 16 شعبان 1258 هـ الموافق 22 سبتمبر 1842م في “قصر جراغان” في إسطنبول ابناً للسلطان عبد المجيد الأول من زوجته الثالثة،( تري موج كان) من شركس أرمنيا حيث يكون السلطان عبد الحميد الثاني خليفة المسلمين الثاني بعد المائة والسلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية ، والسادس والعشرون من سلاطين آل عثمان الذين جمعوا بين الخلافة والسلطنة، وآخر من امتلك سلطة فعلية منهم.
ومع بداية نشأة السلطان كان قد تعلم اللغتين العربية والفارسية بالإضافة إلى الفرنسية ، ودرس الكثير من كتب الأدب والدواوين الشعرية والتاريخ والموسيقى والعلوم العسكرية والسياسية، وكان يحب مهنة النجارة ويقضي فيها الوقت الكثير، وما تزال بعض آثاره النجارية موجودة في المتحف. ودرس الأدب العثماني وتعمق به والعلوم الإسلامية ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية ودرس على يد علماء عصره بدءًا من عام 1266 هـ/1850 م، وأتم دراسة صحيح البخاري في علم الحديث، وتعلم السياسة والاقتصاد على يد وزير المعارف. وذهب السلطان عبد الحميد في فترة تولي السلطان عبد العزيز الأول العرش مع وفد عثماني في زيارة إلى مصر ثم إلى أوروبا استغرقت رحلة أوروبا من 21 يونيو إلى 7 أغسطس عام 1867 زار فيها فرنسا وإنكلترا وبلجيكا والإمبراطورية النمساوية المجرية وألمانيا. وكان محباً للرياضة والفروسية. وعرف السلطان بتدينه والمحافظة على العبادات والشعائر الإسلامية والبعد عن المسكرات والميل إلى العزلة، وكان والده يصفه بالشكاك الصامت. فتقول ابنته عائشة بخصوص هذا الموضوع « كان والدي يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، ويقرأ القرآن الكريم، وفي شبابه سلك مسلك الشاذلية، وكان كثير الارتياد للجوامع لا سيما في شهر رمضان.» انتسب إلى جمعية العثمانيين الجدد في بداية تأسيسها لكنه تركها بعد أن اكتشف نواياهم المضرة بالدولة العثمانية.
توفي والده وعمره 18 عامًا، وصار ولي عهد ثان لعمه السلطان عبد العزيز ، الذي تابع نهج أخيه في مسيرة التحديث، واستمر في الخلافة 15 عاما شاركه فيها السلطان عبد الحميد في بعض سياحاته ورحلاته إلى أوروبا ومصر والتقى السلطان عبد الحميد في خلافة عمه بعدد من ملوك العالم الذين زاروا اسطنبول الى ان تم قتل عمه السلطان عبد العزيز في مؤامرة دبرها بعض رجال القصر، واعتلى العرش من بعده مراد الخامس شقيق السلطان عبد الحميد، ولكنه لم يمكث على العرش إلا 93 يومًا فقط.
تولي الخلافة :
تمت مبايعة السلطان عبد الحميد بالخلافة في (9 شعبان 1293 هـ الموافق 31 أغسطس 1876)، وكان في الرابعة والثلاثين من عمره، وتولَّى العرش مع اقتراب حرب عثمانية روسية جديدة، وظروف دولية معقدة، واضطرابات في بعض أجزاء الدولة، خاصة في البلقان. حيث اجتمعت الدول الكبرى في اسطنبول في مؤتمر ترسخانة في (5 ذي الحجة 1293 الموافق 23 ديسمبر 1876م)، لمناقشة الحرب القادمة، وتزامن ذلك مع إعلان المشروطية الأولى (الدستور)، ثم افتتاح مجلس المبعوثان (النواب) المنتخب من الولايات العثمانية المختلفة، حيث بدأت الخطوات الحثيثة نحو النظام البرلماني ثم تلى ذلك العديد من التطورات السياسية إلى أن جائت ثورات البلقان إلا أن الجيوش العثمانية استطاعت الانتصار ووصلت إلى مشارف بلغراد، غير أن تدخل أوروبا أوقف الحرب.
ومع دق طبول الحرب العثمانية الروسية سحبت الدول الكبرى سفراءها من اسطنبول ، وتركت العثمانيين وحدهم أمام الروس حيث وقعت الحرب في منتصف عام (1294 هـ الموافق 1877م)، وعرفت بحرب 93، وتعد من كبرى حروب ذلك الوقت، ومني فيها العثمانيون بهزيمة كبيرة، واقترب الروس من اسطنبول لولا تكتل الدول الأوروبية ضد روسيا، وحضور الأسطول الإنجليزي إلى ميناء اسطنبول، وأُمليت على العثمانيين معاهدتي صلح هما: آيا ستافانوس، وبرلين، اقتطعت فيهما بعض أراضي الدولة العثمانية، وفرضت عليها غرامات باهظة، وتم تهجير مليون مسلم بلغاري إلى اسطنبول أدى ذلك إلى نهاية المشروطية الأولى وحل مجلس المبعوثان ثم جاءت الحرب العثمانية اليونانية 1897 حيث طمعت اليونان في ولايتي يانيا وكريت العثمانيتين فأعلنت الحرب ضد الدولة العثمانية، وبعد معارك عديدة انتصرت القوات العثمانية وسقطت الوزارة في العاصمة أثينا وطلبت الوزارة الجديدة الدول الكبرى راجية الصلح، وأرسل القيصر إلى السلطان برقية طالباً الصلح فوافق بشرط إعادة تيساليا ودفع غرامات قيمتها 10 ملايين ليرة عثمانية فعقدت معاهدة إسطنبول التي تتكون من 16 مادة في 4 ديسمبر 1897 م وتم منح كريت حكماً ذاتياً.
سياسة السلطان ومشاريعه :
اعتلى السلطان المظفر عبد الحميد الثاني عرش السلطنة بينما كان العالم العربي يشهد قيام فكرتين كانتا ردة فعل ضد الاستعمار والسيطرة الأجنبية، إحداهما فكرة “الجامعة الإسلامية”، والثانية “القومية والوحدة العربية” والتي انتشرت في البلدان العربية وخاصة بين نصارى الشام. وعندما أصبح العالم الإسلامي هدفاً للدول الاستعمارية، استيقظت فكرة إحياء الوحدة الإسلامية لتوحيد الجهود ضد هذه الدول. فتزعم السلطان عبد الحميد إبان حكمه هذه السياسة نظراً للظروف الداخلية والخارجية، لأنه وجدها علاج دولته، ولم ير أن الوحدة الداخلية وحدها كافية بل أن يمتد تأثيرها نحو كل مسلمي العالم.
بدأ السلطان بتطبيق هذه السياسة، وأخذ ينفذها متأثرا بالمفكر نامق كمال في البيئة العثمانية، و المفكر جمال الدين الأفغاني في البيئة الإسلامية والعربية، لتنفيذ سياسته في الداخل وفي الخارج، ففي الداخل كان تنفيذ مبادئ الحركة يعني الالتزام بحدود الشريعة الإسلامية، وفي الخارج يعني تمسك المسلمين بالخلافة. وبعد أن بدأ بتطبيق “حركة الجامعة الإسلامية” استطاع أن يحتفظ بولاء الأقوام غير التركية في الدولة، وكسب جميع المسلمين إلى جانبه. و أخذ يقرب عدداً من الشخصيات العربية كعزت باشا العابد وأبو الهدى الصيادي وغيرهم، وكون فرقة عسكرية أدخلها في حرسه الخاص، واهتم بالمقدسات الإسلامية الثلاث التي جميعها بحوزة العرب وخصص لها الأموال، وعمد إلى مصاهرتهم فزوج أميرتين من آل عثمان بشابين عربيين. وعمد إلى دعوة الزعماء والمفكرين من غير العرب ليظهر اهتمامه برعاية العلم والعلماء وكانت هذه الخطوة من الوسائل التي لجأ إليها السلطان لدعم حركة إحياء مركز الخلافة الإسلامية لاستمالة المسلمين حول العالم من غير رعاية الدولة. وحرص على إقران الأسماء الدينية مثل “أمير المؤمنين” و”خادم الحرمين الشريفين”. وعمد على إظافة مظاهر الزهد وممارسة الشعائر الدينية علانية وأحاط نفسه بعلماء الدين. وأدخل اللغة العربية على الدروس في المعاهد وحاول جعلها مساوية للّغة التركية التي هي اللغة الرسمية للدولة.
وكان أهم منجزاته لدعم حركة الجامعة الإسلامية مشروع خط حديد الحجاز حيث كانت هذه الحركة نجاحاً تأرجح بين القوة والضعف، وانتشر صداها في العالم الإسلامي والعالم العربي حيث أصبح يستعاض بهذا المشروع عن طريق القوافل الذي كان يستغرق السفر به أربعين يوما، وانخفضت المدة بالخط الحديدي إلى أربعة أيام وقد خلق هذا المشروع العملاق حماسة دينية بالغة بعدما نشر السلطان عبد الحميد الثاني بيانا على المسلمين يدعوهم فيه للتبرع، وافتتح القائمة بمبلغ كبير؛ فتهافت المسلمون من الهند والصين وبقية العالم على التبرع، باعتبار أن هذا المشروع هو مشروع المسلمين أجمعين. ووصل أول قطار الى المدينة المنورة في (رجب 1326هـ الموافق أغسطس 1908م)، بعد ثمانية أعوام من الجهد والعمل الدائبين.
وأما بالنسبة للسياسة الخارجية فكانت المجال الأكثر نجاحا للسلطان المظفر عبد الحميد، حيث كان يحرص على متابعة التطورات السياسية في العالم عن كثب ولهذا الغرض استحدث مركزا في القصر لجمع المعلومات , حيث كانت ترد إليه كافة المنشورات الصادرة بحق تركيا حول العالم، وأيضا التقارير المرسلة للسلطان من الممثليات الخارجية بغية تقييمها.
وكان الهدف الرئيسي في السياسة الخارجية، ضمان عيش الامبراطورية والخلافة الاسلامية بأمن وسلام؛ حيث استفاد السلطان عبد الحميد من المصالح والأطماع المتضاربة للدول الغربية، ولهذا تغيرت السياسة الخارجية بموجب الظروف المتغيرة في العلاقات الدولية، حيث أنه لم يدخل في اتفاقية مستدامة مع أي دولة، وقام بأنشطة دبلوماسية ذكية متنوعة بهدف شق صف الدول الكبرى قدر المستطاع لكي يشغلهم بأنفسهم ويبعدهم عن الدولة العثمانية.
وحاول السلطان عبد الحميد عبر سياسة الاتحاد الاسلامي مواجهة مساعي العملاء البريطانيين لنشر الفكر القومي العربي، وقام بتعيين خديوي مصر خليفة بدعوى أن الخلافة من حق العرب, وسعى السلطان عبد الحميد إلى نشر الإسلام في أقاصي الأرض مثل جنوب إفريقيا واليابان، من خلال ارسال العلماء بشكل موسع واعتبر قضية فلسطين، من المسائل الهامة التي أبدى فيها السلطان عبد الحميد صلابة وحقق فيها نجاحا لا يستهان به حيث رفض عرضا من الصهاينة بسداد الديون الخارجية، مقابل إقامة دولة لليهود في فلسطين كما اتخذ السلطان عبد الحميد سلسلة من التدابير للحيلولة دون هجرة اليهود إلى فلسطين، من أصقاع العالم واستيطانهم فيها.
خطوات هامة في التعليم والزراعة :
أقدم السلطان عبد الحميد على خطوات هامة في مجالات التعليم والاسكان والزراعة فقد ارتفع عدد المدارس بمراحلها المختلفة بشكل كبير، وارتفع عدد دور المعلمين (بمثابة معهد عالي لاعداد المدرسين) إلى 32 معهد بين أعوام 1876 و 1908 كما افتتح العديد من المعاهد العليا لتخريج الكوادر المؤهلة في مجالات الزراعة والمالية والقانون والطب البيطري والتجارة وغيرها وبفضل هذه السياسة انتشر التعليم الابتدائي والمتوسط وفق النظام الغربي في عموم البلاد وذلك تحت إشراف الدولة.
كما شهد عهد السلطان عبد الحميد اهتماما خاصة بالألعاب الرياضية وتعليمها وفق أسس علمية حيث تأسست في عهده 3 من أعرق أندية كرة القدم التركية هي فنر بهتشة وغلطة سراي وبشيكطاش.
ومن جانب آخر حرص السلطان على تطوير القطاع الصحي والمساعدات الاجتماعية؛ حيث شهد عهده بناء مدرسة “حيدر باشا” الطبية، ومشفى الأطفال في حي شيشلي بإسطنبول الذي بناه من ماله الخاص، ودار العجزة الذي تكفل بجزء من تكاليفه.
كما انتشرت غرف الزراعة والتجارة والصناعة في عهد السلطان عبد الحميد في أرجاء الإمبراطورية وجرى تسيير ترامات كهربائية في العديد من المدن، وتم تمديد خطوط تلغراف وصلت إلى الحجاز والبصرة, وزادت في ظل حكم السلطان عبد الحميد الثاني الإعداديات العسكرية، وتم تحديث أسلحة الجيش العثماني بأسلحة حديثة, وفي مجال القانون جرى تحقيق تطورات هامة أيضا؛ حيث تم استصدار قوانين جنائية وتجارية، وإعادة هيكلة جهاز الشرطة، على غرار الأجهزة في الغرب كما عمل السلطان على تطوير الأسطول وسداد ديون سفن حربية قديمة تم شرائها حتى قبل توليه السلطنة، وقد أضيف في عهده بوارج كثيرة وغواصتان، منها ( الغواصة عبد الحميد ) وهي أول غواصة في العالم تطلق طوربيد حي من تحت سطح الماء، إضافة لهذا فقد دفع السلطان من ماله الخاص تكاليف تجارب بناء الغواصات في اسطنبول. كما زاد عدد السفن الحربية المتبقية منذ عهد السلطان عبد العزيز من 39 سفينة إلى 85 سفينة رئيسية و 79 سفينة مساعدة، و كانت تتكون ما بين سفن حربية وفرقاطات مدرعة و طرادات وعوامات و حاملات طوربيد، وقد استخدمت هذه السفن في حروب البلقان والحرب العالمية الأولى بل وفي حرب الاستقلال كما أمر السلطان عبد الحميد الثاني بإرسال كثير من السفن الحربية للإصلاح خارج البلاد لأول مرة بعد انقضاء عصر عمه عبد العزيز، وتم تصنيع جزء آخر من السفن في ترسانات داخل البلاد، وأصبح الطراد المسمى “حامدية” كالأسطورة على ألسنة الناس؛ بسبب المعارك الناجحة عام 1912 م.
وكان السلطان عبد الحميد يرى منذ أن تولى الحكم ضرورة اتخاذ اللغة العربية لغة رسمية للدولة العثمانية العلية. وفي هذا يقول (( اللغة العربية لغة جميلة . ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل )). جيث أن السلطان عبد الحميد كان يشكو وخصوصا في بداية حكمه من أن الوزراء وأمناء القصر السلطاني كانوا يختلفون عنه في التفكير , وأنهم متأثرون بالغرب وبالأفكار القومية والغربية وكانوا يشكلون ضغطا على القصر سواء في عهد والده السلطان عبد المجيد الأول وفي عهد عمه السلطان عبد العزيز الأول ، أو في عهده هو . ولم يقتصر الأمر على معارضة اقتراح السلطان عبد الحميد بتعريب الدولة العثمانية على الوزراء المتأثرين بالغرب فقط , بل تعداه إلى معارضة من بعض علماء الدين.
اهتمام السلطان بالمجال الصحي والتكنولوجيا :
بسبب وفاة العديد من أقارب السلطان عبد الحميد بمختلف الأمراض، فقد أولى السلطان المجال الصحي عناية كبيرة، فأسس دار السعادة ودار القلب وشفاهانه في اسطنبول. وعندما سمع أن لويس پاستير اكتشف مصلاً للعلاج من السعار، أرسل لجنة لتقييم الاكتشاف، ثم موَّل معهد پاستير مقابل أن يرسل المعهد بأمصال لعلاج داء الكلب للاستخدام في الدولة العثمانية، وهو الأمر الذي تم بعد ثلاث سنوات. كما كان يدعو كبار العلماء والمخترعين الغربيين لزيارته في اسطنبول. لذلك فقد كان قصر يلدز من أول الأماكن في العالم في استخدام التلغراف والهاتف والكاميرا الفوتوغرافية.
علاقة السلطان عبد الحميد الثاني مع الدول العظمى :
كان السلطان شخصا مهما بالنسبة للدول الأوروبية؛ لأنه يمسك في قبضته ملايين المسيحيين، وبصفته خليفة للمسلمين فإن له نفوذاً وسلطاناً روحياً على رعايا الدول الأوروبية المسلمين ولم يكن من الممكن لأي من الدول الكبرى أن تقتطع أجزاء من الدولة العثمانية في أوروبا أو البلقان في ظل وجود السلطان عبد الحميد الثاني؛ لذا أخذت فكرة إسقاطه تكتسب ثقلاً كبيرًا في لندن وباريس.
كما أن سياساته فيما يتعلق بالجامعة الإسلامية وسكة حديد الحجاز وبغداد، ونجاحه في تشييد سكة حديد بغداد برأسمال ألماني حيث أنه بذلك استطاع إدخال ألمانيا إلى قائمة الدول المتنافسة في منطقة خليج البصرة الغنية بالبترول، وضمن عدم اقتراب بريطانيا، وحماية سكة الحديد باعتبار ألمانيا صاحبة امتيازها فكل ذلك أقلق إنجلترا، وأثار عدم ارتياح روسيا، وخلق صلابة في التصميم الأوروبي على ضرورة التخلص من هذا الخليفة الذي استطاع بدهائه تحييد القوى الأوروبية.
السلطان عبد الحميد ومواجهته للمشروع الصهيوني :
لما عقد اليهود مؤتمرهم الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1315هـ، 1897م، برئاسة ثيودور هرتزل 1860م-1904م رئيس الجمعية الصهيونية، اتفقوا على تأسيس وطن قومي لهم ليكون مقرا لأبناء عقيدتهم، وأصر هرتزل على أن تكون فلسطين هي الوطن القومي لهم، فنشأت فكرة الصهيونية، وقد تواصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد مرارا ليسمح لليهود بالانتقال إلى فلسطين، ولكن السلطان كان يرفض، ثم قام هرتزل بتوسيط كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلة بالسلطان أو ببعض أصحاب النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيط بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يفلح، وأخيرا زار السلطان عبد الحميد بصحبة الحاخام موسى ليفي وعمانيول قره صو، رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد مقدمات مفعمة بالرياء والخداع، أفصحوا عن مطالبهم، وقدموا له الإغراءات المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالاً طائلة مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالف سياسي يُوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضده في صحف أوروبا وأمريكا. لكن السلطان رفض بشدة وطردهم من مجلسه وقال: (( إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل، إن أرض فلسطين ليست ملكي إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع وربما إذا تفتت إمبراطوريتى يوماً، يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل))، ثم أصدر أمرا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين. عندئذ أدرك خصومه أنهم أمام رجل قوي، وأنه ليس من السهولة بمكان استمالته إلى صفها، ولا إغراؤه بالمال، وأنه مادام على عرش الخلافة فإنه لا يمكن للصهيونية العالمية أن تحقق أطماعها في فلسطين، ولن يمكن للدولة الأوروبية أن تحقق أطماعها أيضًا في تقسيم الدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، وإقامة دويلات لليهود والأرمن واليونان. لذلك قرروا الاستعانة بالقوى المختلفة التي نذرت نفسها لتمزيق ديار الإسلام، أهمها الماسونية، والدونمة، والجمعيات السرية (الاتحاد والترقي)، وحركة القومية العربية، والدعوة للقومية التركية (الطورانية)، ولعب يهود الدونمة دورا رئيسا في إشعال نار الفتن ضد السلطان عبد الحميد الثاني.
السلطان عبد الحميد وعلاقته مع الأرمن :
نستطيع القول بشكل عام أن الأرمن عاشوا كغيرهم من الأجناس التي ضمتها الإمبراطورية العثمانية، واحتل بعضهم منصب الوزير، وكان تعدادهم داخل الدولة لا يزيد على مليوني شخص. ونصت معاهدة برلين على إجراء إصلاحات لصالح الأرمن في 6 ولايات عثمانية في الأناضول، ولم تكن تبلغ أكبر نسبة لكثافتهم السكانية في أي ولاية أكثر من 20%، إلا أن السلطان رفض تطبيق هذه المادة من المعاهدة؛ فقام الأرمن بإيعاز من بعض الدول الكبرى بارتكاب مذابح بشعة ضد المسلمين القرويين، حيث بقروا بطون الحوامل وقتلوا النساء، وقطعوا عورات الرجال وحرقوا المساجد، ولم يجد السلطان عبد الحميد بُدًا من مواجهة هذا الإرهاب الصليبي، فشنت بالتالي الصحافة الغربية حملة شعواء عليه ووصفته بالسلطان الأحمر.
لهذا السبب عمل السلطان على تشكيل فرق من الأكراد لحماية المسلمين العزل في الأناضول عرفت بأفواج الخيالة الحميدية. ويقول أحد المؤرخين إن هذه السياسة حافظت على الوجود الكردي والمسلم في الأناضول حتى اليوم لكن لم يكتف الأرمن بإشاعة الفوضى وارتكاب المذابح بحق القرويين، بل قاموا بأعمال شغب في اسطنبول نفسها سنة 1313هـ الموافق 1892م و1314 هـ الموافق 1896م ، وقد واجهتها القوات العثمانية بحزم، أما الدول الكبرى فتركت الأرمن لحالهم بعد أن أوقعتهم في الأزمة، فحاول الأرمن جذب انتباه الدول العظمى إليهم فخططوا لاغتيال السلطان عبد الحميد سنة 1323 هـ الموافق 1905م فيما عرف بحادث القنبلة، لكنهم فشلوا في اغتيال السلطان، ومات بعض الأمراء والجنود، وقبض على المتآمر البلجيكي “جوريس”، لكن السلطان عفا عنه، بل استخدمه فيما بعد لجمع معلومات له في أوروبا.
السلطان عبد الحميد وجمعية الاتحاد والترقي :
جمعية الاتحاد والترقي هي أول حزب سياسي في الدولة العثمانية، ظهر عام 1308 هـ الموافق 1890م كحزب سري يهدف إلى معارضة حكم السلطان عبد الحميد الثاني والتخلص منه، وبعدما اكتشف السلطان أمر الحزب سنة 1315 هـ الموافق 1897م نفى الكثير من أعضائه إلى الخارج، وهرب بعضهم إلى باريس، ثم اجتمع المعارضون لحكم السلطان في باريس في ذي القعدة 1319 هـ الموافق فبراير 1902م في مؤتمر أطلقوا عليه مؤتمر الأحرار العثمانية وتم اتخاذ قرارات مهمة فيه، منها تأسيس إدارات محلية مستقلة على أساس القوميات، وهو ما يعني تمزيق الإمبراطورية العثمانية، غير أن هذا القرار اعترض عليه بعض الحاضرين في المؤتمر، ثم طالب المؤتمرون من الدول الأوروبية التدخل لإنهاء حكم السلطان عبد الحميد وإقصائه عن العرش.
كما افتتح الاتحاد والترقي فروعا له داخل الدولة العثمانية التحق بها عدد كبير من الضباط الشباب ذوي الرتب الصغيرة، ثم تزايد عدد الضباط حتى قيل أن كل ضباط الجيش العثماني الثالث في البلقان سنة 1326 هـ الموافق 1908م كانوا منضمين إلى الاتحاد والترقي. وتحالفت الجمعية مع الثوار في البلقان، وأهدرت عصابات البلغار واليونانيين كثيرا من دماء المسلمين بالاتفاق مع الاتحاديين بغرض هدم النظام الحميدي. وبدأ الاتحاديون في قتل الموظفين العثمانيين الذين لا يتعاونون معهم.
والواقع أن تولي الاتحاد والترقي الحكم لم يؤسس الديمقراطية المزعومة، وإنما تحول النظام إلى حزب واحد وديكتاتورية واحدة حوت جميع العناصر الراغبة في تمزيق الدولة. حيث أعلنت بلغاريا وكريت انفصالهما عن الدولة العثمانية والانضمام لليونان، وأعلنت البوسنة والهرسك استقلالها التام عن الدولة العثمانية.
السلطان عبد الحميد وطريق الإمبراطورية الطويل نحو الانهيار :
في تزامن سريع للأحداث قامت إمبراطورية النمسا المجر في 5 أكتوبر 1908 باحتلال البوسنة والهرسك، وبدأ عصيان في إسطنبول في 13 أبريل 1909، واستمرت الأحداث الدموية في إسطنبول لمدة 11 يوما وبعد وصول الجيش العثماني القادم من سلانيك، ليلة 23 أبريل 1909، تم إخماد العصيان في إسطنبول ورفض السلطان عبد الحميد الثاني مقترح التصدي للجيش العثماني القادم من سلانيك، عبر الجيش الأول الذي كان مواليا له، وقال حينها: (( بصفتي خليفة للمسلمين، لن أسمح بالإيقاع بين المسلمين)).
وفي 27 أبريل 1909، قرر البرلمان برئاسة سعيد باشا، إنهاء سلطنة السلطان عبد الحميد الثاني حيث اجتمع 240 عضواً من مجلس الأعيان في جلسة مشتركة وقرروا بالاتفاق خلع السلطان عبد الحميد الثاني، وكتب مسودة الفتوى الشيخ نائب حمدي أفندي المالي، لكن أمين الفتوى نوري أفندي الذي دعي للاجتماع رفض هذه المسودة، وهدد بالاستقالة من منصبه إِن لم يجر تعديل عليها، وأيده في التعديل عدد من أنصاره من النواب، فعدل القسم الأخير على أن يقرر مجلس المبعوثان عرض التنازل عن العرش وهذا ما حصل. وبتكليف من جمعية الاتحاد والترقي تم تكوين لجنة لإبلاغ خليفة المسلمين، وسلطان الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني بقرار خلعه، وكانت هذه اللجنة تتألف من:
- إيمانويل قراصو: وهو يهودي إسباني.
- آرام: وهو أرمني عضو في مجلس الأعيان العثماني.
- أسعد طوبطاني: وهو ألباني، نائب في مجلس المبعوثان.
- عارف حكمت: وهو فريق بحري عضو مجلس الأعيان.
وفي الليلة التي أُبعد فيها عن العرش تم إرسال السلطان عبد الحميد الثاني مع عائلته إلى سلانيك على متن قطار خاص واستقر السلطان عبد الحميد الثاني في قصر إلاتيني بمدينة سلانيك، وأمضى أوقاته هناك بالعمل في النجارة والحدادة وعند اقتراب القوات اليونانية المتمردة من سلانيك، تم نقل السلطان إلى إسطنبول، ووصل إليها في الأول من نوفمبر1912، ليستقر في قصر بيلار بايي، وأمضى بقية حياته هناك.
وفاة السلطان عبد الحميد خان الثاني :
بعد استقرار السلطان في المنفى تدهورت صحته وأصبح يشكو من الإرهاق ومن مشاكل في الجهاز الهضمي. وفي 9 فبراير 1918م شعر بألم في جسمه بعد أن نهض من مائدة الطعام، وكان طبيبه الخاص قد حصل على أذن، فقام أحد من كانوا معه وهو “راسم بك” باستدعاء طبيب أخيه الأصغر محمد وحيد الدين الذي أصبح سلطاناً لاحقاً، وعندما فحصه أبلغهم بأن مرضه بوادر سل خطير، فابلغ راسم بك السلطان محمد الخامس، وفحصه الدكتور “عاطف بك” وتوصل لنفس الأمر، واستدعوا طبيبا مشهور وهو “نشأت عمر بك” ليفحصه وعند الصباح التالي أصر على الاستحمام على غير رغبة الطبيب وعند خروجه منه بدأ يتصبب عرقا وما إن عاد إلى فراشه حتى استدعى الأطباء أبناءه الأمراء للقاء والدهم في النزع الأخير، لكنه أسلم الروح قبل دخولهم عليه في العاشر من فبراير/شباط 1918 لتطوى بذلك صفحة آخر خليفة فعلي في تاريخ الإسلام وبتعليمات من السلطان رشاد تم دفنه بعد يوم من وفاته في مقبرة السلطان محمود الثاني، بعد مراسم تأبين خاصة بالسلاطين.
رحل السلطان عبد الحميد عن 57 عاما، قضى منها اكثر من ثلاثة عقود في حكم دولة مترامية الأطراف تنوء بحملها الثقيل، فكان شغله الشاغل طوال هذه الحقبة إنقاذ “الرجل المريض”، أو تأجيل حتفه يوما على الأقل، وهو اللقب الذي أطلقه الأعداء المتربصون على الدولة العثمانية في عصر الأفول.
رثاهُ الشاعر أحمد شوقي قائلا عنه في قصيدته التي رثا بها الخلافة الإسلامية :
عادت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحٍ | ونُعيتِ بين مَعالِمِ الأَفراحِ | |
كُفِّنتِ في لَيلِ الزِّفافِ بثوبِهِ | ودُفِنتِ عند تبلّجِ الإصباحِ | |
شُيِّعتِ من هَلَعٍ بِعبرَةِ ضاحِكٍ | في كُلِّ ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ | |
ضَجَّت عليكِ مآذِنٌ ومَنابِرٌ | وبكت عليكِ ممالكٌ ونَواحٍ | |
الهِندُ والِهةٌ ومِصرُ حزينةٌ | تَبكي عليكِ بمدمعِ سحاحِ | |
والشَّامُ تَسأَلُ والعِراقُ وفارسٌ | أَمَحى من الأَرضِ الخِلافةَ ماحٍ | |
وأتت لكِ الجُمعُ الجلائلُ مَأتَمًا | فقعدنَ فيه مقاعدَ الأَنواحِ | |
يا للرِّجالِ لَحُرَّةٌ موؤودَةٌ | قُتلت بِغير جَريرةٍ وجناحِ | |
إنَّ الذين أَسَت جِراحَك حَربُهم | قَتَلَتكِ سَلمُهُمُ بِغَيرِ جِراحِ | |
هَتَكوا بأيديهم ملاءَةَ فَخرِهم | مُوَشيةً بمواهبِ الفَتَّاح | |
نَزَعوا عن الأعناقِ خيرَ قِلادَةٍ | وَنَضُوا عن الأعطافِ خير وِشاحِ | |
حَسْبٌ أَتى طولُ الليالي دونَهُ | قد طاحَ بين عَشِيَّةٍ وصباحِ | |
وعَلاقَةٌ فُصِمت عُرى أسبابِها | كانت أَبرَّ علائق الأرواحِ | |
جمعت على البِرِّ الحضورَ ورُبَّما | جمعت عليه سرائر النُّزاحِ | |
بكت الصّلاة وتلك فِتنةُ عابِثٍ | بالشَّرع عربيد القَضاءِ وَقاحِ | |
قائمة المصادر والمراجع :
- علي محمد الصلابي ، كتاب الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط (2001).
- محمد حرب ، كتاب العثمانيون في التاريخ والحضارة (1989).
- أحمد نوري النعيمي ، كتاب اليهود والدولة العثمانية (1997).
- محمد حرب ، كتاب السلطان عبدالحميد الثاني (1990).
- عبد الحميد الثاني ، كتاب السلطان عبد الحميد مذكراتي السياسية 1891-1908 (1979).
- محمد فريد بك ، كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية (1981).
- الأميرة عائشة بنت السلطان عبد الحميد ، كتاب والدي السلطان عبد الحميد (1991).
- محمود شاكر ، كتاب التاريخ الإسلامي، العهد العثماني، الجزء الثامن (1987).
- يلماز أوزتونا ، كتاب تاريخ الدولة العثمانية (1990).